الفكر الإسلامي

محاوراتٌ في الدِّين

( الحلقة 14 الأخيرة )

 

  

 

 

بقلم :   الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي*

 

يثني النَّاس على الشيخ محمد قاسم:

       غادر الشيخ بعد ما انتهى من كلمته، والنَّاس يثنون عليه ويُسَلِّمون. وقد رأى كاتب السطور أنَّ الهندوس قال بعضهم : واهًا أيها الشيخ ! وقال آخرون منهم : سلام عليك أيها الشيخ . وكانت غلبة علماء المسلمين وانتصارهم واضحةً جليةً .

       ثم رأيت أنَّ القساوسة قد استعدوا للرحيل، ولم يفوا بوعد استمرار الاجتماع إلى الساعة الرابعة . كما تَوَجَّهَ "الباندت" والمنشئ "إندرمن" تلقاء "تشاندا فور" فاضطر علماء المسلمين أن يغادروا ولم يروا حاجةً إلى القيام ؛ لأنَّ الصحراء كان يُخْشى فيها كلُّ نوعٍ من أنواع الأذى والمكروه، وكانوا يخشون فيها نزول المطر والبرد .

 

ضيافة الشيخ محمد ظاهر :

       غادرنا عند الأصيل ، ونزلنا بمنزل الشيخ محمد طاهر تحقيقًا لرغبته ، فأكرم وفادتنا وبالغ في ضيافتنا حتى لاننساها . وبينما في الصباح كان الشيخ محمد قاسم والشيخ محمد علي يضمهما مجلسٌ واحد ، إذ حضره رجل من المسلمين ، لا أعرف اسمه ، غير أنّ أسلوب لقائه كان يَنِمُّ عن أنه كان بينه وبين الشيخ محمد علي سابق معرفة وآصرة مودَّةٍ . وكان مهرجان "تشاندافور" حديث المجلس ، فشاركه قائلاً: كان القاضي يقول: حضرت الاجتماع في اليوم الأول عندما كان الشيخ يلقي كلمته في موضوع النبوة ، وقد أعجبتني إعجابًا شديدًا، ثم أفحم القسيس إفحامًا، لن يجروء بعده إذا كان به غيرة وحياء . ومما أقضي العجب أنه لم يجر لقاء بيني وبينه قط ، فكيف عرفني ، حتى كان يقول مشيرا إليَّ مرة بعد أخرى : "أيها القاضي ّ أنت الحكم فينا".

 

لم يبق مثل علمه الآن :

       لعل القسيس صادف الشيخ عبد المجيد في اليوم نفسه في السوق ، فقال له الشيخ : أيها القسيس لماذا لم تقل شيئًا – أثناء إلقاء كلمتك – تقبله العقول ؟ . فقال : إني لم أجد فرصةً . ثم قال عن الشيخ محمد قاسم : إنه ليس شيخًا ، وإنما هو شيخ متصوف . ولم يبق مثلُ علمه في المسلمين ، وقال : "لايُبَارِي أحدٌ علماءَ المسلمين في علم الإلـٰـهيات"

       وفي اليوم نفسه لعلَّ الشيخ محمد قاسم قال للشيخ محمد علي : لماذا لم يَجْر الحوار بينك وبين المنشئ "إندرمن" ، وكان ذلك حسرةً في القلوب لم تُقْضَ، فإن سمحت فأرسل خطاباً عن طريق الشيخ محمد طاهر إلى المنشئ "إندرمن" بهذا الشأن.

       فقال الشيخ محمد علي : إني بدأت الحديث في قضية قِدَم العالم ، وهي من أهم عقائد المنشئ "إندرمن" التي بُنِيَتْ عليها عقيدة التناسخ ، وهي من العقائد اللازمة لديه . ولكنه لم ينبس ببنت شفة . وكلمةُ الباندت هي الأخرىٰ تدل على بطلان قدم العالم وآراء المنشئ إندرمن التي جاءت في كتاب "تحفة الإسلام" وليست الآن حاجة إلى الحوار معه . فإن شئت فاكتب إليه رسالةً حتى يحضر في "شاه جهان فور" وأنا ماكث فيها ؛ لأنه يمر بها إلى "مراد آباد" .

 

يقول المثل الأردي السائر:

من يرى الطاؤوس إذا رقَصَ في الصحراء:

       أرسل الشيخ محمد طاهر رسالةً جاء فيها: احضر مع الباندت وتتفضل بقبول دعوتي ، حتى يجري الحوار بينك وبين الشيخ محمد علي" إلا أنه أبى أن يحضر "شاه جهان فور" ، ولما كان الإباء الصريح يؤدي إلى إهانته رَدّ على الرسالة : بل استصحب أنت الشيخ واحضر "تشاندا فور" ، فكتب إليه الشيخ محمد طاهر بعدما استشار الشيخ محمد قاسم والشيخ محمد علي : من يرى الطاؤوس إذا رقص في الصحراء؛ فقد فُضَّ عقد النّاس ، ولم يبق هنا من يسمع الحوار ويتمتع به . وقد كنت تقول : "إني أمكث يومًا أو يومين في "شاه جهان فور" ثم أغادر إلى "مراد آباد" فإن عُقِدَ هذا الاجتماع أثناء رحلتك إلى مراد آباد كان أحسنَ وأفضلَ ، ويحضره عدد كبير من النّاس ، لكونه في المدينة. غير أنه استمر في إبائه حتى قال : "إني لن أحضر منزلك" لوكان "كنكا برشاد" الذي سيتم نقله محافظاً إلى "شاه جهان فور" لنزلت منزله ، وإني أقابل الشيخ محمد علي في مراد آباد وأجري معه الحوار والنقاش فيها .

       فلما تكَرَّر الإباء وسمعه المتوافدون من مدن: ديوبند ، وميروت ، ودهلي ، وخورجه ، وما إليها، الذين كانوا قد حضروا رغبةً في سماع المناظرة والمناقشة ، ومكثوا لهذه المراسلة ، شدُّوا رحالهم إلى أوطانهم . وقد قال بعضهم للشيخ محمد قاسم : إنك قلت للباندت حينما قال: ليخبرني أحد أين الجنة ، فقلت له : أنا أخبرك إذا أتيحت الفرصة ، ولما كان الوقت ضيّقا ، لم يتفق أن تُبين ، فماذا بيَّنْتَ لوبَيَّنْتَ .

 

تساؤل : أين الجنة ؟ يجيْبُ عنه الشيخ محمد قاسم :

       فقال الشيخ : ألا فاسمعوا الآن . إنا نرى في الدنيا أنَّ الملذات لاتخلو من المشقات ، والمشقات لاتخلو من الملذات ، والمنافع لاتخلو من المضار ، والمضار لاتخلو من المنافع ، فأكل الطعام وشرب الماء من الملذات والمنافع ، غير أنهما تستتبعها مفاسد البول والبراز ومضار الأمراض والأسقام ؛ والأدوية المرّة والافتصاد والجراحة ، من المتاعب والمشقات ، غير أنها تؤدي إلى أنواع من الراحة والطمأنينة ، ثم نرى أنَّ هذه الأشياء – لكونها مشتملةً على الراحة والأذى والنفع والضرر – كالمركبات العنصرية المشتملة على الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة . فالأشياء المتضادة تُشَكِّل مزاجًا مركبا ، كالمركبات العنصرية التي تبدو فيها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وإلا من رأى الله يركب المركبات العنصرية .

       فلما نظرنا في أجسامنا ووجدنا فيها اليبوسة في قليل أو كثير ، عرفنا أنَّ في أجسامنا عنصر التراب ، وإلا لما كانت فيها يبوسة ؛ لأنّ اليبوسة خاصة التراب ، هي تُوجد فيه ، ولا تُوجد في غيره . فما في أجسامنا من اليبوسة هو من آثار عنصر التراب .

       كذلك وجدنا في أجسامنا الرطوبة ، وهي خاصة الماء ، فعرفنا أنَّ فيها عنصر الماء ، وقِس على هذا الهواء والنار .

 

الجنة مصدر الراحة وجهنم منبع المشقة :

       ومن الواضح أنَّ اليبوسة والرطوبة وأصولهما التراب والماء ضدان يفترقان ، كذلك أصل الراحة يختلف عن أصل المشقة ، فكما أنَّ المركبات العنصرية تتفاوت في الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة لكونها متفاوته في الماء والتراب وما إليها كذلك مركبات الراحة والمشقة لها أصول يَختلف بعضها عن بعض .

       فإذا أخذنا مركبات الراحة والمشقة وجدنا لكل واحد منهما – الراحة والمشقة – أصلاً بعينه، مثل الماء أصل للرطوبة وحدها ، والتراب أصل لليبوسة لا غير. بناءً على ذلك فقد يجب أن نُسَلِّم في مركبات الراحة والمشقة أصلاً هو الراحة كلُّ الراحة ، وهذا ما نسميه "الجنة" كما قال الشاعر الفارسي : الجنة هي ماليس فيه مكروه وأذى ، وأصلا هو الأذى كلُّ الأذى ، وهذا هو مانسميه "جهنم" .

       جملة القول أنّ الرطوبة واليبوسة من كيفيات الجسم لها أصل بعينه ، وطبقة بعينها كذلك الراحة والمشقة لها أصل بعينه وطبقة بعينها .

 

سؤال "أين" خاطئ :

       وأما سؤال "أين" فغير جدير بالاستماع عقلاً ؛ لأنَّ وجود شيء لايستلزم أن نعلمه ، ففي الأرض آلاف من الأماكن والأشياء لانعملها ، فإن كانا – الجنة وجهنم – داخل الأرض أو السماء ولا نعلمهما فليس بغريب ، وإن كانا خارجهما فليس بمستحيل كذلك .

 

وجود الشيطان والملائكة :

       بجانب ذلك ، دلَّلَ الشيخ على وجود الشيطان والملائكة ، وتفصيل ذلك أنَّ الإنسان لايميل إلى فعل الخير دائمًا ولا إلى ممارسة الشر دائمًا ، وإنما يميل إلى فعل الخير حينًا وإلى ممارسة الشر حينًا آخر، فاختلاف ميله يدل بوضوحٍ أنَّ مزاجه الروحي يتألف من عنصرين متضادين ، وإلا صدور كيفيتين متضادتين من شيء واحد مستحيل استِحَالةَ صدور اليبوسة والرطوبة من عنصر التراب أو الماء . فكما أنه يجب أن يجتمع عنصران إذا اجتمع الأمران : اليبوسة والرطوبة ، كذلك هنا يجب أن يجتمع عنصران وأن يكون لكل واحد منهما أصل خاص وطبقة مستقلة إذا اجتمعت الكيفيتان المتضادتان : الميل إلى فعل الخير والميل إلى ممارسة الشر .

       على هذا فيجب أنْ نُسَلِّم بأنَّ هنا مخلوق خاصته الميل إلى فعل الخير . وهؤلاء هم الملائكة، ومخلوق آخر خاصته الميل إلى ممارسة الشر، وهؤلاء هم الشياطين.

       هذا وقـد ثبت مما تقـــدَّم وجودُ الجنة والنار والملائكـــة والشيطان . وأما القـــول – بعد ما عُلِمَ هذا كله – بأنَّ الاعتراف بوجود الشيطان يعني أنَّ الله تعالى أطلق في بلاده لصًّا أو نهّابًا فمثله كمثل رجلٍ يقول نظرًا إلى مضار الماء والهواء والتراب والنار، والآثار الدالّة عليها من الرطوبة والحرارة وما إليهما : لو كان في جسم الإنسان نار فقد فعل الله كرجلٍ بنى كوخًا ثم أحرقه بالنار، فلا يؤيد العقل هذا ولا القياس ذاك .

       وجملة القول أنه لاينبغي للعاقل أن يَشُكَّ في وجود العناصر بالرغم من الآثار الدالّة عليها، كذلك لاينبغي للعقلاء أن يشكوا في وجود الملائكة والشياطين بالرغم من الآثار التي تدل عليهما . قد جاء تركيب الجسم الإنساني من العناصر المتضادة التي يعترف بها الطبع السليم ، وقد أدّى هذا التركيب إلى نتيجةٍ طيبةٍ وهي "المزاج المركب" الذي يُظهرُ آثارًا عجيبةً لاتُحصى، وهي ملموسة في الحيوانات ، كذلك اعتبارُ الملائكة والشياطين في تركيب العالم يؤدِّي إلى نتائج طيبة لاتحصى .

       وكيف لا ؟ فكل شيءٍ حسنٍ جميلٍ يتضمن حَسَنَ الأمور وقبيحها ، فالمنزل الطيب هو الذي فيه المرحاض ، وإن كان فيه جميع الأشياء ســـوى المـــرحاض ، وقبحــه أظهر و أبين كان المنـــزل ناقصًا. والــــرجل الجميــــل هو الذي لـــه العينان والأنف والخدان والحاجبـان والأهداب والشعر واللحية والشاربان ، وقبح سواد الشعر واللحية والأهداب أظهر وأبين ، ولولا اللحية والحاجبان والأهداب والشعر لكان جماله ناقصًا. فإذا كانت صغار الأمور هذه تحتاج إلى الشيء وضده وحسن الشيء وقبحه فكيف لايحتاج هذا العالم الواسع الأرحب إلى اجتماع الحسن والقبح ، وإلا فمن أين جاءت فيه المساوئ ؟ ولماذا اظهرت فيه المشقات ؟

       جملة القول أنَّه ينبغي أن يكون الحسن والقبح والراحة والمشقة في العالم ، والآثار تدل على أنها وُجِدَت هذه الأشياء فيه ، فتوجيه الباندت مثل هذا الاعتراض إلى القسيس لايكون صوابًا عند أولي العقل والإنصاف.

 

تنطق إِلهة العلم على قلبه :

       هذا وقد مرَّ الشيخ وزملاؤه بسوق "شاه جهان فور" فكان أصحاب المحلات التجارية من الهندوس يشيرون إليه بالبنان . وكان الشيخ ذو الفقار علي الديوبندي نائب المفتش للمدارس الحكومية يقول: في مدينة سهارنفور رجل اسمه "ليكهـ رام" له وَلَعٌ بالبحوث الدينية، ومراسلة مع المنشئ "بيارے لال" وقد حضر الاجتماع بنفسه، فلقيته بعد ما عاد من الاجتماع ، فحكى هو لي من مداولات الاجتماع مثل ما حكى علماء المسلمين ، وقال : كان شيخ يُدعي Mقاسم عليL من هذه المنطقة لاتسئل عن حاله ، فقد كانت "سرستي" – إلـٰـهة العلم – تنطق على قلبه .

       ومن هنا علمنا أنَّ "سرستي" كلمة سنسكرتية معناها "إلـٰـهة العلم" انتصر، "بيتان":

       وقد روى بعض من حضر الاجتماع من أهالي "شاه جهان فور" أو معارفهم الذين عادوا بعد انتهاء الاجتماع في اليوم التالي : "كان غوغاء الهندوس يقولون في الطريق : انتصر "بتان" . ولما كانت مدينة "شاه جهان فور" معظم المسلمين فيها هم "بتان" ولذا اشتهرت هي بمدينة "بتان" كان غوغاء الهندوس يحسبون المسلمين الذين حضروا الاجتماع بتان .

 

رجاء كاتب السطور :

       والآن يقول كاتب السطور : إنه سجَّلَ مداولات الاجتماع ما وسعه أن يُسجل دون نقص أو زيادة . وما كان يستنبط من كلمة أحدٍ وما أتيحت الفرصة لذكره كتبته في الهامش . غير أنه لم يحضرني ألفاظ الكلمات بأسـرها ؛ فلم أقيّدها بألفاظها ، ولا أثق بترتيبها، فلا عجب أن يتطرق إليها التقديم والتأخيــر. وقــد قلت ذلك إخبارًا بالواقع ، حتى لايشك أحد ولايرتاب . وكل ما قيَّدته لم أتعَمَّد فيه الزيادة أو النقصان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وأهل بيته وأزواجه أجمعين .

            انتهى بحمد الله ومنه محاورة شاه جهان فور: يوم الاثنين 26/ ربيع الثاني عام 1300هـ .

العبد فخر الحسن عفى الله عنه ذنوبه

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32

 



* أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند .